من النادر أن تجتمع كل هذه الخلال والأحداث والرحلات والأفكار وثراء النتاج الأدبي ، والشجن والقيم والروعة ، في شخصية أديب وحياته كما اجتمعت في الأديب الكبير الراحل علي أحمد باكثير ( رحمه الله ) ، وأي دراسة تتناول جوانب من حياته وفكره وكتاباته الثرية والممتعة سوفم تجد مادتها الغنية عبر نتاجا أدبيا غنيا وحياة حافلة ، وشجون ثائرة ، ولا نقول ذلك مبالغة وإعجابا بالأديب الكبير ، بل لأن عشرات البراهين تجتمع لتؤكد أنه الأديب الفذ صاحب القيم الرفيعة والأخلاق السامية ، وصاحب الريادة في مجالات عديدة من مجالات الأدب والفن ، فمن هو باكثير ؟
• هو رائد من رواد النهضة المسرحية المعاصرة .
• وهو رائد المسرح السياسي في الوطن العربي والإسلامي .
• وهو من عبر في أدبه عن قيم العروبة والإسلام الخالدة .
• وهو الذي اجتمعت لديه ألوان الثقافات من عربية وإنجليزية وفرنسية .
• وهو صاحب الأخلاق النادرة الطيبة ، والتي جذبت له عشرات الأصدقاء .
• وهو الأديب النابغة الذي أجاد في جميع فنون القول ، فكتب المسرحية النثرية ، والمسرحية الشعرية ،والأوبرا ، والرواية ، والمقال ، والشعر المرسل ، والشعر العمودي .
• وهو رائد الشعر العمودي بشهادة الشاعر بدر شاكر السياب نفسه ( 1 )
• وهو صاحب الإنتاج الوفير والخصب ، فكان يكتب يوميا أكثر من عشر ساعات حتى أصيب في فقرات ظهره ، وكان يكتب بقلم رديء حتى يتقن كتابته ، و لاتنهمر معه الأفكار فتمنعه من التدقيق الشديد ، وكان أحيانا يقضي الساعات قلقا بسبب كلمة يريد اختيارها بدقة .
• وهو صاحب الجوائز العديدة فما أشترك في مسابقة إلا وفاز بها .
• وهو الحضرموتي الإندونيسي الحجازي المصري العربي المسلم .
• وهو من زرع البلاد العربية طولا وعرضا ، وكانت آخر رحلاته لقطاع غزة بفلسطين قبيل هزيمة 1967م بقليل ، ووصفه أحد مرافقيه بأنه كان أقل الجميع مرحا في تلك الرحلة ، بل غلبت عليه الكآبة ، بل لعله كان الحمامة الحزينة في ذلك السرب لأن شعورا تملكه بأن هذه الأرض ستفلت من بين أيدينا في وقت قريب ، فقال لرفاقه في هذه الرحلة : " إني أري البقية الباقية من فلسطين ستضيع ما دمنا علي هذا الحال " ( 2 ) وقد صدق حدسه ( رحمه الله ) .
• وكما كان رائد القضية الفلسطينية في الأدب العربي ، فقد ساهم في جميع قضايا العروبة والتحرر من الاستعمار الدخيل .
• وهو المثقف الأديب صاحب الرؤية النافذة والبصيرة الثاقبة ، فأستشرف في أدبه أفاق المستقبل ، فكان أول من تنبأ بكارثة فلسطين سنة 1948م في مسرحيته " شيلوك الجديد " والتي كتبها عام 1945 م ، كما تنبأ بكارثة 1967م في أحاديثه الخاصة مع أصدقائه ، كما تنبأ بالزحف الشيوعي في روايته " الثأر الأحمر " ، كما أستشرف أسلوب المقاطعة الاقتصادية ، كما تنبأ ( ونسأل الله تعالي ألا تتحقق هذه النبوءة أبدا ) بهدم المسجد الأقصى .
• وهو الأديب المظلوم والذي تمسك بالأدب المعبر عن وطنيته وعروبته وإسلامه ، فغلقت في وجهه المسارح والمنابر الأدبية ، وهاجموه وأساءوا إليه أبلغ الإساءات حتى كان في نهاية حياته في غاية الحزن والألم .
• وهو مدرس اللغة الإنجليزية في مدارس المنصورة لأكثر من خمسة عشر عاما ، وكان أول من حصل علي منحة التفرغ عندما كان موظفا في مصلحة الفنون .
• وهو الذي قام بترجمة مسرحيته " شيلوك الجديد " لتكون منبرا للدفاع عن فلسطين وقدمها لإحدي دور النشر الأجنبية فرفضت نشرها له .
• وهو الأديب الذي كان لا يجد نفسه إلا مع قلمه ، ولا يحيا ولا يتنفس إلا وهو يكتب أو تراوده فكرة جديدة يكتبها ، وكان يقول لزوج ربيبته : " لا تظن إني أخاف الموت ، لكني أريد أن أعيش حتى أتم اعمالي الأدبية .. والحقيقة ان مشروعاتي الدبية لا تنتهي .. إنها كثيرة " ( 3 ) .
• ودل علي ذلك إحصاء أعمال الكاتب الكبير فله كم ضخم من الكتابات منها خمس روايات طوال ، وواحد وعشرون مسرحية ، وملحمة سيدنا عمر ( رضي الله عنه ) ، فضلا عن ثلاثة عشر عملا أدبيا ما بين رواية ومسرحية لم تري النور بعد ( 4 ) ، كما كتب أكثر من سبعين تمثيلية سياسية جمع بعضا منها في كتابه " مسرح السياسة " والذي يضم ثماني تمثيليات فقط ، ليتبقي حوالي ستين تمثيلية أخري لم تقرأها الأجيال المعاصرة ، أما إحصاء المطبوع من إنتاج الأديب الكبير ، ففي قائمة مطبوعات مكتبة مصر ( المكان الوحيد لطباعة أعماله ) نجد أنها تضم خمسة وأربعين عملا أدبيا منوعا إضافة إلي ملحمة سيدنا عمر في تسعة عشرجزءا ( 5 ) ، وجري طباعة الملحمة بمكتبة مصر في طبعة جديدة عبارة عن ثلاثة مجلدات ، كما أضيف أعمال أخري مطبوعة حديثا لم تنشر من قبل عبارة عن مسرحية شعرية ورواية ( 6 ) ، إضافة إلي تراث ضخم من الشعر ما زال في طي النسيان وكان قد سبق له نشره في الدوريات والصحف المختلفة إبان حياته ، أو ظل مجهولا بين أوراقه التي خلفها ( 7 ) ، كما أشار د . محمد أبو بكر حميد ( المشرف علي نشر أعمال باكثير ) إلي عثر علي مخطوطات نادرة لباكثير لم يتم نشرها من قبل عبارة عن مسرحيات وقصص قصيرة وقصائد شعرية ( 8 ) .
• وهو أيضا صاحب ملحمة عمر ( رضي الله عنه ) والتي قال عنها البعض أنها أفضل ما دونه الأدباء بالعربية .
• وهو نموذج الأديب العربي والوطني والإسلامي المعبر في أدبه عن هموم أمته ، فكان بحق الأديب الذي حمل أعباء قضايا وطنه ، فعاش حياته مازجا هذا الإحساس الحي بأدبه الرفيع ، فخدم قضايا وطنه وعقيدته خير خدمة وأدي رسالة الفن ، وظل حتى آخر أنفاسه في الحياة ينافح عن قضية العروبة والإسلام الأولي " فلسطين " ، حتى صرح لأحد أصدقائه ( وهم كثر ) أنه يعتزم كتابة مسرحية جديدة عن المقاومة الفلسطينية وأنه يطمح قبل كتابتها أن يزور منطقة الأغوار في خط المواجهة علي نهر الأردن ليعيش أياما مع الفدائيين ( 9 ) .
• وهو الأديب صاحب القضية والرسالة والتعبير الأدبي المتميز فاجتمع له مع شرف الكلمة أداء رسالة الأدب في الحياة ، فالقضية هي قضية الأوطان والدين ، فكان بحق أدبه نبضا للأمة وروحا تسرى في أوصالها .
• كل هذا وأكثر " علي أحمد باكثير " ، والذي يجب أن نرفع عنه الظلم فنقرأ له ونتعلم منه ، ونعرف ونستفيد من فنه الجميل ، خصوصا في تلك الآونة العصيبة والتي تمر بها الأمة العربية والإسلامية ، وأن يتوافر الدراسين حول دراسة جوانب من شخصيته وأدبه ، وجمع تراثه الضخم المخطوط ومن طيات الصحف والمجلات القديمة ووضعها بين أيدي القارئين خدمة هامة للأدب ووفاء لذكري هذا الأديب الكبير .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش :
( 1 ) ص 213 / آباء الستينيات – محمد جبريل – مكتبة مصر – " بتصرف "
( 2 ) ص 12 / علي أحمد باكثير في مرآة عصره – مجموعة كتاب – مكتبة مصر – " بتصرف " .
( 3 ) ص 149 / علي أحمد باكثير في مرآة .... - مرجع سبق ذكره - " بتصرف " .
( 4 ) ص 215 / آباء الستينيات - مرجع سبق ذكره - " بتصرف " .
( 5 ) ص 16 : 18 / قائمة مطبوعات مكتبة مصر .
( 6 ) رواية " الفارس الجميل " / علي أحمد باكثير – مكتبة مصر .
( 7 ) ص 33 / مجلة الأدب الإسلامي – السنة الثانية – العدد السابع – أغسطس – 1955م .
( 8 ) أخبار اليوم القاهرية – عدد 26-5-2001م .
( 9 ) ص 120 / علي أحمد باكثير في مرآة ... - مرجع سبق ذكره - " بتصرف " .
بقبلم :/خالد جوده أحمد